الزراعة العالمية، سبل العيش المحلية؛ مأزق التنمية في السودان

يمكن اعتبار وفاة  نحو مئتي مزارع اختناقا في الزنزانة الصغيرة التي تم وضعهم فيها  عقاباً على مطالبهم أمام أول حكومة مستقلة في فبراير 1956 من أبرز مظاهر الوفاء التي ابدتها نظم ما بعد الإستعمار للنموذج الاستخراجي الذي تبناه أسلافهم من الغزاة. عُرفت هذه الأحداث فيما بعد باسم أحداث عنبر جودة، والتي اندلعت أساسًا نتيجة مطالب مزارعي القطن في المشاريع المروية على ضفاف النيل الأبيض، والتي كانت معظمها مشاريع مملوكة لأفراد. حيث عبر المزارعون عن عدة مطالب، من بينها مستحقاتهم غير المدفوعة لثلاث سنوات والاعتراف باتحاد المزارعين الخاص بهم. في حين كانت صادرات المحاصيل النقدية، وخاصة القطن، مربحة للغاية لكل من المشاريع الحكومية والخاصة خلال فترة الحكم البريطاني المصري، يشير نيبلوك (1987: 46) إلى أن هذا لم يترجم أبدًا إلى أوضاع معيشية أفضل للمجتمعات الزراعية. حيث كانت ظروف الإنتاج التي عاشتها المجتمعات الزراعية مشابهة لتلك التي عاشها مزارعو جودة؛ حيث لم يتم حتى الالتزام بالاتفاقيات النقدية المجحفة أساساً.

لم تعبر السياسات الزراعية لفترة ما بعد الاستقلال عن أدنى اهتمام بسيادة البلاد الغذائية. يقدم بيمبرت (2009) نموذجاً شاملاً للسيادة الغذائية يضع مصالح المزارعين المحليين والمجتمعات المحلية في مقدمته، مثل منح أولوية إنتاج الغذاء للأسواق المحلية بدلاً من صادرات المحاصيل النقدية، والإدارة العامة أو المجتمعية للموارد الإنتاجية بدلاً من الملكية الخاصة والاحتكارية. نجد أن هذا النموذج يتعارض مع النمط التاريخي لقطاع الزراعة في السودان الذي يعطي الأولوية لانسياب العملة الصعبة، والقدرة التنافسية، والجاذبية للمستثمرين، بدلاً من الأمن الغذائي أو معيشة الآلاف من المجتمعات الزراعية.